حوار بالمسدس
*عبد اللطيف النيلة
« بيت بلا نوافذ: بيت لا تدخله الشمس»
« يد لم تتوضأ بالتسامح: يد مدنسة بالعنف»
كان يجلس باطمئنان على كرسي اليقين. عباراته قاطعة جازمة، لا يأتيها الشك من بين يديها و لا من خلفها، و لا ريح تهب عليها من نافذة الاحتمال. يحاول باستماتة ابتلاع زمن الحديث كله، فيفتح صنبور الكلام من غير اقتصاد، ويقاطع "خصمه" باستمرار ساطيا على حصته من الكلام. لم يكن يصغي إلى خصمه، بل كان يتربص به عند منعطفات الكلمات لينقض عليه، على حين فجأة. وكلما اختلف معه "خصمه" أشهر في وجهه خنجرا لفظيا، مقبضه من معدن الفتوى الواثقة من نفسها، ونصله مشحوذ بالاتهام والتهديد.
تلك صورة قد نصادفها ونحن نتابع بالواضح جلسة حوار في إحدى قنواتنا العربية، وقد نلتقطها في مساحة منذورة للجدل والتفاعل، كالمقهى أو الفصل الدراسي. وهي صورة تستفزنا بما تنضح به من عنف بشع في مقام يفترض التحاور والتناظر، لا الإقصاء والنفي والإبادة.
إنها صورة تجسد ماهية العنف، على الأقل في مستواه الفكري والرمزي. فهي تبرز أن العنف فعل يستضيء(يستظلم!)برغبة إثبات/ تكريس الذات، ونفي/ تحطيم الآخر. وهذه الرغبة تصدر عن اعتقاد نهائي بأن الذات محل النقاء والعلو والسيادة، وما عداها محل الزيف والسفالة والطاعة. ويصاحب هذا الإفراط في الإعلاء من شأن الذات عشق أعمى لما تنجبه وينحدر من منابعها. فالحقيقة لا تكمن خارج الذات، ولا تقيم داخل الآخر، ولا تتولد من العلاقة الجدلية بينهما، وإنما تجد أصلها/ مرجعها في الذات نفسها.
يقود هذا التصور، إذن، إلى التنابذ/ التناقض الجذري بين الذات والآخر. تنابذ مماثل للتنابذ بين الخير والشر. تناقض مشابه للتناقض بين النور والظلام. فليس ثمة مكان للتحاور والتفاعل، للتساكن والتعايش. إما أن يتخلى الآخر عن خطيئة اختلافه، ويذوب في مصهر الذات، ليصبح مجرد نسخة تتطابق مع نموذج الذات، مجرد تكرار وصدى. وإما أن يحتفظ باختلافه، فيكون المسرح الذي تتجسد فيه أضداد الحقيقة ونقائض الحق: الكذب والوهم والخطأ، المروق والانحراف والضلال.
يصبح العنف، من ثم، هو الحركة التي تستهدف تبديد الآخر، محو أثره وإلغاء حضوره، باسم حقيقة متعالية تستوطن الذات. حركة تستبيح كل الوسائل لمجابهة الآخر، بل لغزوه وتدميره، مادام يشوش على قدسية الحقيقة الواحدة، يشكك في نقاء الذات وعلوها، ويجهض رغبتها في السيادة والهيمنة.
ليس العنف، في حقيقته، إلا استبدادا وانغلاقا، من حيث هو قوة تسرف في تمجيد الذات، تدعي امتلاك الحقيقة، وتنهض على الإقصاء والإلغاء. وككل استبداد فإنه لا إنساني ولا أخلاقي، يحطم جسور الحوار، يطفئ أضواء التواصل، ويتوخى تتويج الذات على أنقاض الآخر. وككل انغلاق فإنه يتأسس على منطق الاستنساخ والاجترار، ولا يصغي ولا يبصر، وإنما يكتفي بالكلام وحده، كأنه الوحيد في ساحة الفكر والفعل.
العنف، إجمالا، فعل يحركه عقل فاسد مسخر لخدمة أهواء/ أوهام الذات.
*عبد اللطيف النيلة
« بيت بلا نوافذ: بيت لا تدخله الشمس»
« يد لم تتوضأ بالتسامح: يد مدنسة بالعنف»
كان يجلس باطمئنان على كرسي اليقين. عباراته قاطعة جازمة، لا يأتيها الشك من بين يديها و لا من خلفها، و لا ريح تهب عليها من نافذة الاحتمال. يحاول باستماتة ابتلاع زمن الحديث كله، فيفتح صنبور الكلام من غير اقتصاد، ويقاطع "خصمه" باستمرار ساطيا على حصته من الكلام. لم يكن يصغي إلى خصمه، بل كان يتربص به عند منعطفات الكلمات لينقض عليه، على حين فجأة. وكلما اختلف معه "خصمه" أشهر في وجهه خنجرا لفظيا، مقبضه من معدن الفتوى الواثقة من نفسها، ونصله مشحوذ بالاتهام والتهديد.
تلك صورة قد نصادفها ونحن نتابع بالواضح جلسة حوار في إحدى قنواتنا العربية، وقد نلتقطها في مساحة منذورة للجدل والتفاعل، كالمقهى أو الفصل الدراسي. وهي صورة تستفزنا بما تنضح به من عنف بشع في مقام يفترض التحاور والتناظر، لا الإقصاء والنفي والإبادة.
إنها صورة تجسد ماهية العنف، على الأقل في مستواه الفكري والرمزي. فهي تبرز أن العنف فعل يستضيء(يستظلم!)برغبة إثبات/ تكريس الذات، ونفي/ تحطيم الآخر. وهذه الرغبة تصدر عن اعتقاد نهائي بأن الذات محل النقاء والعلو والسيادة، وما عداها محل الزيف والسفالة والطاعة. ويصاحب هذا الإفراط في الإعلاء من شأن الذات عشق أعمى لما تنجبه وينحدر من منابعها. فالحقيقة لا تكمن خارج الذات، ولا تقيم داخل الآخر، ولا تتولد من العلاقة الجدلية بينهما، وإنما تجد أصلها/ مرجعها في الذات نفسها.
يقود هذا التصور، إذن، إلى التنابذ/ التناقض الجذري بين الذات والآخر. تنابذ مماثل للتنابذ بين الخير والشر. تناقض مشابه للتناقض بين النور والظلام. فليس ثمة مكان للتحاور والتفاعل، للتساكن والتعايش. إما أن يتخلى الآخر عن خطيئة اختلافه، ويذوب في مصهر الذات، ليصبح مجرد نسخة تتطابق مع نموذج الذات، مجرد تكرار وصدى. وإما أن يحتفظ باختلافه، فيكون المسرح الذي تتجسد فيه أضداد الحقيقة ونقائض الحق: الكذب والوهم والخطأ، المروق والانحراف والضلال.
يصبح العنف، من ثم، هو الحركة التي تستهدف تبديد الآخر، محو أثره وإلغاء حضوره، باسم حقيقة متعالية تستوطن الذات. حركة تستبيح كل الوسائل لمجابهة الآخر، بل لغزوه وتدميره، مادام يشوش على قدسية الحقيقة الواحدة، يشكك في نقاء الذات وعلوها، ويجهض رغبتها في السيادة والهيمنة.
ليس العنف، في حقيقته، إلا استبدادا وانغلاقا، من حيث هو قوة تسرف في تمجيد الذات، تدعي امتلاك الحقيقة، وتنهض على الإقصاء والإلغاء. وككل استبداد فإنه لا إنساني ولا أخلاقي، يحطم جسور الحوار، يطفئ أضواء التواصل، ويتوخى تتويج الذات على أنقاض الآخر. وككل انغلاق فإنه يتأسس على منطق الاستنساخ والاجترار، ولا يصغي ولا يبصر، وإنما يكتفي بالكلام وحده، كأنه الوحيد في ساحة الفكر والفعل.
العنف، إجمالا، فعل يحركه عقل فاسد مسخر لخدمة أهواء/ أوهام الذات.