www.addoha.ibda3.org

أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

www.addoha.ibda3.org

أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى.

www.addoha.ibda3.org

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى التربية والتعليم . الثانوية التأهيلية الضحى


    طفلنا الذي يحبو

    avatar
    عبد اللطيف النيلة


    عدد المساهمات : 53
    نقاط : 152
    تاريخ التسجيل : 07/05/2010

    طفلنا الذي يحبو Empty طفلنا الذي يحبو

    مُساهمة من طرف عبد اللطيف النيلة الأربعاء ديسمبر 01, 2010 3:48 pm

    قصة قصيرة:

    طفـلـنا الذي يحبـو..
    * عبد اللطيف النيلة

    رفعت عيني إلى الشباك: كان مظلما. نزلت الدرجة الوحيدة، فكنت أمام عتبة الدار. الباب موارب، فلم أشأ أن أدق. اتجهت توا إلى باب حجرة صديقي. قرعت الباب، فيما كانت امرأة بدينة تغسل الأواني في صحن الدار وتلاحقني بعينيها. ناديت على صديقي عدة مرات، فلم يرد علي أحد. دفعت الباب بقوة فلم يتزحزح. وواجهت المرأة : «مساء الخير.. ألا تعرفين متى خرج؟». ردت علي التحية بنبرة من كان متلهفا لسماع تحية، وأخبرتني أن صديقي قد خرج منذ نصف ساعة تقريبا، وأشارت إلى باب حجرتها متفحصة وجهي: «تفضل.. استرح حتى يأتي!». شكرتها بلطف، وانصرفت إلى الزنقة، حيث جلست تحت الشباك المظلم.
    كانت بي رغبة طاغية في التهالك على مرتبة صديقي. أجيئه دائما على حين فجأة، فتكتسي ملامحه بالدهشة والفرح. أدرك جيدا مدى إحساسه بالوحشة في هذه المدينة الإسمنتية، وكم ترجاني أن أبقى إلى جانبه وألا أقيم حسابا للمصاريف: «ما يأكله واحد، يأكله إثنان». لكني لم أكن أستطيع. كنت أقول له قبل أن أحصل على الإجازة: «شيئان يحملاني على المجيء إلى هذه المدينة: المنحة والمحنة». أما الآن، فقد تبخرت المنحة (وهل كانت منحة؟) وبقيت المحنة. كنت قد انتزعت نفقات السفر، كعادتي، بكثير من التوسل والتحايل، وتجشمت عناء مئات من الكيلومترات.. لأجل أن أجرب.. اجتياز مباراة أخرى!
    أضواء الزنقة شاحبة. على مقربة مني حانوت نجار، وبجانب الجدار تحلق شبان يدخنون ويلعبون الورق. كنت من حين لآخر أنظر إلى ساعتي، وأراقب ما حولي. كان صبية النجار يعملون بتأن وكسل شديد. أحدهم يصقل إطار نافذة بورق حكاك أصفر، والآخران ينقشان بإزميليهما مستطيلا من الخشب. كانت تتناهى إلي، من حلقة الشبان، تعليقات ساخرة وكلمات بذيئة وقهقهات، وكنت أرى الدخان يتصاعد متلولبا فوق رؤوسهم. تعبت من الوقوف فجلست على حقيبتي. لكني تذكرت صورة خديجة، القابعة في الحقيبة بين الثياب، فنهضت على الفور. دائما تكون رفيقتي في السفر. كلما اشتد الحنين، أخرجها لألقي عليها نظرة.. فأجدها متطلعة إليّ بوجهها الأسمر المدور، وعينيها الكحيلتين برموشهما الطويلة ونظرتهما العميقة الصافية الحانية.. التي أشعر أنها موجهة إلي، أنا بالذات. داعبتني رغبة في استخراج الصورة، غير أني كبحتها حتى لا أثير انتباه الآخرين أكثر.
    جاوزت الساعة العاشرة، ومازلت أنتظر. لم يبق من الحلقة غير بضعة شبان يتناوبون على تدخين لفافات الحشيش. أما صبية النجار فقد أدخلوا الأدوات والأخشاب إلى عمق الحانوت، وأنزلوا الباب الحديدي، ثم أحكموا إغلاقه بالأقفال والمفاتيح، وكانوا يلقون باتجاهي نظرات مستريبة كلما أداروا مفتاحا أو أغلقوا قفلا...
    انحنيت أخيرا على حقيبتي، وتحركت متثاقلا. ضيق يسكن صدري، وانسداد في أنفي يذكرني بأني أوجد في مدينة الإسمنت لا في مدينتي. كان علي أن أفكر بسرعة في مكان آوي إليه الليلة: غرفة صديقي مستبعدة.. الفندق لا أملك أجرته.. لم يبق أمامي إذن سوى المقهى.. لكن لا طاقة لي على الالتصاق بكرسي حتى الصباح. اضطررت إلى هذا الحل في مرات سابقة، واحتملت. الآن أريد أن أنام.. أبرق السرير في ذاكرتي فجأة، فحثت خطاي..
    شارع طويل صاعد تنهبه سيارات مسعورة. الأرصفة خالية. ليل بارد رطب، معتم قليلا رغم أعمدة النور. شريط من العشب يمتد على طول الرصيف الذي أخطو فوقه. التفتّ خلفي: شبحان قادمان من بعيد. ضاعفت سرعتي، لكن الحذاء كان يؤلمني. خلعت فردة حذائي اليسرى: الأصبع الكبيرة انتفخت قليلا. وقعت عيني على منديل ورقي ملقى بجانب الرصيف. لففته حول أصبعي، وأدخلت قدمي في الحذاء بحذر. تقدمت وعيناي على الحذاء: سأتحمل الألم من أجلك يا حبيبتي.. ومن أجل طفلنا الذي يحبو.. منذ متى لم أفرح بحذاء جديد؟ يا لرقتها وهي تقودني من يدي إلى محل «باطا» بجليز. قالت: «اختر الحذاء الذي يعجبك». سايرتها ظانا أن الأمر مجرد مزحة، فاخترت هذا الحذاء الأسود، وقلت لها: «اللي ما شرى يتنزه». لكن شفتيها افترتا عن تلك البسمة العذبة التي تجعل عينيها تلتمعان، وأخرجت حافظة نقودها. تملكتني الدهشة وحاولت أن أثنيها عن عزمها، غير أنها اندفعت توا نحو مكتب الدفع. وحين خرجنا من المحل، قلت شبه غاضب:
    - لماذا فعلتها؟
    - تلك هديتي إليك.
    - أنا من يفترض فيه أن يهدي..
    تناولت يدي بكفها وربتت عليها بكفها الأخرى، وردت: «لا فرق بيننا.. وأنا على يقين أنك ستشبعني هدايا حين تنجح في المباراة..». وأضافت مداعبة: «وستشتري حذاء لطفلنا العنيد». فغمرنا ضحك لفت انتباه المارة.. تلك طريقتها في تحريري من الشعور بأني مقصر تجاهها. لثمت أصابعها بامتنان شديد: ترى كم لزم هذه الأصابع من ضربات على الآلة الكاتبة كي توفر لي ثمن الحذاء؟
    هبت ريح باردة. أخذت أغصان الأشجار تتمايل. ولاحظت أن أضواء العمارات مطفأة. انكمشت على نفسي، وواصلت سيري. غزاني الإحساس بأني سرت كثيرا، وبأني أسير وحدي إلى ما لا نهاية.. مرقت سيارة إسعاف، فهزني صوتها المنذر. التفتّ خلفي مرة أخرى: كانت المسافة قد تقلصت بيني وبين «الشبحين». خيل إلي أنهما يجدان في طلبي، فاستولى علي الخوف. لماذا أخاف (نخاف!) دائما؟ تذكرت كلمات خديجة: «لا أحب الرجل الخوّاف». قالتها يوم التقيتها صدفة أمام باب الدار، إذ وقفت لأسلم عليها وأنا غارق في الارتباك، لأني كنت أخشى أن يفاجئنا أحد أقاربها. وقالتها أيضا حين كنت أحرص على ترك مسافة بيني وبينها حتى لا تضبطنا الشرطة متلبسين، في الشارع العام، بجناية العلاقة!
    لم أرتح إلا عندما تبدى لي، على بعد خطوات، مدخل الحي الجامعي. وقفت لأسترجع أنفاسي، ورحت أفكر في طريقة للدخول. لا شك أن وجهي مألوف بالنسبة للحراس، والأمر يقتضي فقط دخولا تلقائيا من غير تردد. لكن قبل ذلك ينبغي أن أتخلص من هذه الحقيبة حتى لا تفضحني.. لم أتردد، وانتظرت حتى أقبل قادم يمسك بيده حزمة نعناع. شرحت له الأمر ببساطة، فتفهم محركا رأسه كما لو أنه سيقوم بدور روتيني. ناولته حقيبتي، وتناولت منه حزمة النعناع. دخل أولا، ثم مضت لحظة قبل أن أتبعه. تظاهرت باللامبالاة، وتقدمت في غير عجلة ولا بطء، متحاشيا أن تصطدم عيناي بنظرات الحراس. تنفست الصعداء، ولم أصدق أني نجوت بهذه السهولة. كما توقعت لم تبدد سنوات العطالة صورتي من ذاكرة الحراس. كأني سأظل، بالنسبة إليهم، طالبا أبد الدهر! لكن ما إن استعدت حقيبتي حتى سمعت صراخ أحد الحراس: «هيه.. أنت! توقف لحظة!». تابعت سيري، ولم ألتفت… وحين انعطفنا يسارا سرّعت خطوي، فأشار علي صاحبي بأن أتمهل، لأن الحارس كان ينادي على شخص آخر.
    أعفاني صاحبي من مشقة البحث عمن يؤويني. قال إن هناك سريرا شاغرا في المرقد الذي يقطن فيه. لم أعرف كيف أشكره. وخطونا باتجاه العمارة «F». كنت أعرف، من خلال تجربتي السابقة في هذا الحي، أن حراس العمارات أقل تشـددا من حراس المدخل.. ومع ذلك استوقفني الحارس مستفسرا عن بطاقة الحي. كدت أكذب، فأدعي أني نسيتها أو ضاعت مني. إلا أني قلت لنفسي: «لأكن صادقا وليحدث ما يحدث». كنت أنساق فيما مضى إلى الكذب، مبررا ذلك بأن حياتنا كذب في كذب، والسياسـة فن الكذب، و.. و... وكانت خديجة تحتد غاضبة في كل مرة تكتشف فيها أني كذبت عليها. تحتقن ملامح وجهها، فيما أبقى حائرا، مثل طفل ضبطته أمه متلبسا بفعل شنيع، وأبذل غاية جهدي لاسترضائها واعدا إياها بأن أجعل فمي نظيفا. وغالبا ما تختم غضبها بعبارة ساخرة ما تفتأ تخز قلبي: «بهذه الطريقة سنغير؟!».
    بنبرة صارمة، رفض الحارس أن يسمح لي بالدخول. قلت له إني لن أبيت إلا ليلة واحدة، وذكرته بأني قاطن سابق، وبأن سيرتي حسنة، وعرضت عليه أن أستبقي عنده بطاقتي الوطنية. وإزاء تصلبه لم أجد بدا من استثارة شفقته: «أنا عاطل (معطل!) منذ سنوات، وقد أتيت لأجرب حظي في إحدى المباريات (للمرة السبعين!)، وأنا.. وأنا...». وكما يحدث لي في مواقف حرجة أخرى، انحلت العقدة (حقا؟!). كلما أشهرت سلاح العطالة في وجه أحد ما، إلا ورفع يديه مستسلما. أشهرته في الحافلة.. في المقهى.. في المقاطعة.. في عيادة طبيب.. وأيضا في وجه عساس ركل سلعتي في السوق الأسبوعي، لأنني.. أغلقت باب الرزق على صاحب متجر للتجهيز المنزلي.
    في مرقد بالطابق الأرضي، تهالكت على السرير الشاغر. تمددت على بطني، فارتخى جسدي، وأحسست بالتعب يزحف من أعلى جسدي ليتجمع في ساقي حيث يتسرب شيئا فشيئا. غفوت لحظة لأستيقظ على صوت صاحبي الذي حمل إلي كأسا من الشاي. رحت أرتشف السائل الساخن بالتذاذ، وأبادله الحديث كما لو كانت تربطني به صداقة قديمة. كان موقفه معي يقدم برهانا ساطعا على تفاؤل خديجة. سنوات العطالة أفقدتني الثقة في الآخرين، فلم أعد أرى فيهم إلا جلادا، أو خائنا، أو متشفيا، أو ساخرا.. وكانت توجعني، على الخصوص، تلك العبارات التي ينفثها الأقارب في وجهي: «مازلت دون شغل؟»، «مسكين! كان الله في عونك».. وتلك النظرات التي تقتحمني متفرسة في طولا وعرضا، تلك النظرات التي ترعبني إلى حد أن أشك أحيانا في نفسي: هل مازالت الكلمات تخرج من فمي متماسكة؟ هل تثير سحنة وجهي الشفقة؟.. أستعيد الآن يا حبيبتي ذلك المساء البعيد… كنا نجلس في مقهانا المفضل. وجهانا متقابلان، لكني كنت أنظر إليك من خلف النظارة.. فجأة امتدت يدك إلى النظارة، وقلت بشيء من العصبية: «عندما تكون معي أزحها جانبا». سألتك لماذا؟ فصمتِّ لحظة، وأجبتني في هدوء: «لأنها سوداء!».
    كأس الشاي أنعشني، غير أن الحديث انزلق إلى منعطفات نكأت جراحي، وصرت أترك مسافة بين كل جملة وأخرى لألتقط أنفاسي، وأحيانا ينقطع النفس قبل أن أتم الجملة. لاحظ صاحبي ذلك فقال:
    - تبدو مرهقا.. هل تعشيت ؟
    - لا شهية لي.
    - أهو الخوف من الامتحان؟
    - أبدا .. ما عدت أبالي.
    - ألن تراجع قليلا؟
    - ليت المسألة كانت متعلقة بالمراجعة!
    عادة ما تنفر خديجة من هذا الجواب، منساقة إلى تقمص دور المحلل النفسي، فتسهب في توضيح عقدة هذا الجيل: «عقدة المشجب»، وتقول إننا أصبحنا معلقيـن واكتسبنا ملكة التعليق: تعليق كل شيء على المشجب.. كنت قد أهديتها دمية تمثل طفلا صغيرا يحبو، فاعتبرناه، في ساعة حلم ودعابة، طفلا لنا، واقترحت أن نسميه «سيزيف»، لكنها اعترضت على روح العبث في اقتراحي، فقلت ليكن «أيوب»، واستعدت مقطع أغنية الشيخ (أيوب على البلا صابر...) التي كنت أرددها مع أصدقائي، على إيقاع العود، في ليالي الحي الجامعي. غير أنها حسمت الأمر قائلة: «سنسميه عنيد». كنت أسألها في كل لقاء عن حال «سيزيف».. عفوا! «عنيد»، فتبتكر في كل مرة جوابا طريفا. كنا سعيدين بهذا الطفل الوديع البريء، ذي اللون الوردي، والذي كان ابنا غير مكلف. يكفي أن تدير المفتاح المثبت في بطنه ليشرع في الحبو. كنت أعلق مازحا: «ابننا يحبو، لكنه لا يكبر»، فتجيبني: «سيكبر ذات يوم.. سيكبر، ينبغي فقط أن نرعى شعلة العناد في أعماقنا».
    داهمتني نوبة من العطس، فاتجهت توا إلى نافذة المرقد الوحيدة. كان يهب منها رذاذ بحري يشتد كلما أشرع باب المرقد. ولم أستطع تلافي تيار الهواء، لأن أحد مصراعي النافذة محطم، والباب لا ينفك ينغلق وينفتح. تمددت على السرير ملتحفا ببطانية رمادية أنعم بها علي صاحبي. حاولت أن أنام، لكن المرقد كان مكانا حيا، مضاء بمصباح قوي، ولا تفتر فيه الحركة. كان يستوعـب أربعا وعشرين قاطنا موزعين على ست علب، لا يفصل بينها غير جدران رقيقة من الزنكَ. ومن هذه العلب يتصاعد دخان التبغ، وتتعالى أصوات المغنين وتختلط: واحْنا هما احْنا.. أغدا ألقاك يا خوف فؤادي.. لا إسلا بونيتا.. ولم أجد غير درب الله درب مضي.. إلبقرة حلوب حاحا.. ونقاش وقهقهات. سألت صاحبي الذي كان يستعد للنوم:
    - هل أنتم على هذه الحال دائما؟
    - تقريبا.
    - متى ينامون؟
    - ليس هناك وقت محدد.
    التف صاحبي بملاءته الصوفية وأدار لي ظهره، فكففت عن طرح الأسئلة. وكعادة كل مساء، أدرت مفتاح رأسي، ورحت أفكر وأفكر، تماما مثل طفلنا الذي يحبو. هو لا يكبر، وأنا لا أصل..! إلى متى أرعى شعلة العناد يا حبيبتي؟ تنهدت بقوة، وتنحنحت عدة مرات كي أتحرر من شيء ما يضايق صدري وحنجرتي. كانت رائحة الرطوبة تسكن البطانية والوسادة والسرير، والهواء أيضا.. رائحة معتقة ونفاذة.. كأن الشمس لم تكن تزور المكان. انتابني العطس مرة أخرى، وكانت لدي رغبة واحدة: أن أسلم جفني للنوم دافنا أنفي في وعاء من القطران. كانت صورة أمي ماثلة أمام عيني، صورتها وهي تشم رائحة القطران عندما تشتد عليها الضيقة إثر إحدى نوبات الصرع.
    غادرت المرقد مرارا، لأحظى بهواء نقي، ولأستجلب النوم، فدخلت المرحاض وتمشيت في ساحة الحي وجلست على أحد مقاعد الساحة. وفي المرة الأخيرة، وجدت المرقد قد هجع. أطفئ المصباح، وبدأ الشخير يتعالى. لكن أعصابي كانت مهتاجة. فقد أحسست بأني أنحدر، شيئا فشيئا، إلى هاوية يتلاشى فيها الهواء تماما. يد قاسية تضغط على أنفاسي دون هوادة، وأنا أجاهد أن أتنفس من فمي. يزايلني الضيق برهة، ثم يستولي علي مرة أخرى، على نحو أكثر إيلاما. رجعت إلى الساحة، مضطربا فزعا، وحاولت أن أستنشق الهواء. رئتاي تطلبان بإلحاح ذرة أوكسجين، والهواء لزج ثقيل. هواجس سوداء انقضت علي، وأيقنت أني أرى العالم لآخر مرة. بادرت إلى إيقاظ صاحبي، ففتح عينيه مخدرا بالنوم، ونظر إلي في ذعر: «ما بك؟». أجبته: «إني أختنق». فقام على الفور، ودنا مني في ارتباك، ثم سألني: «هل أصبت بهذه الحالة من قبل؟». رددت عليه بالنفي، فمددني على السرير، وارتدى بسرعة جاكيتته وحذاءه، ثم خرج.
    ارتخيت في استسلام، بينما كانت اليد القاسية تواصل الضغط على صدري. أومضت في ذهني تمارين الاسترخاء، التي كنت قد قرأتها، يوما ما، في إحدى المجلات النسائية، فأخذت أشد أعضائي وأرخيها على التوالي: أغمض عيني بعمق إلى حد الألم ثم أفتحهما، أقطب أسارير وجهي ثم أبسطها، أشد أطرافي ثم أرخيها... استغرقتني تمارين الاسترخاء، ولم أشعر إلا وصاحبي يقف بجانب رأسي مطمئنا إياي. كان ضغط اليد قد خف قليلا، لكن جسدي كان قد تنمل كله على نحو غريب: جيش من النمل يسري في عروقي بإيقاع بطيء. لم يكف صاحبي عن الحركة، يخرج ويدخل، وفي كل مرة يهتف: «سيحضرون قريبا..». فكرت في أمي، وأشفقت عليها: ستجن إذا علمت بموتي. وفكرت في خديجة: يا لفاجعتها حين تدرك أن طفلنا فقد أباه! تصورت أيضا كيف أن صاحبي، هذا الغريب الذي لا أعرفه، سيشهد اللحظة التي تزهق فيها روحي.. أرفع عيني إليه الآن: كان يذرع الأرض ذهابا وإيابا.. في انتظار سيارة الإسعاف.. التي تأخرت.


      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 19, 2024 2:20 pm